السبت، 24 يناير 2009

(( الشيطان يحكم))بقلم الدكتور :مصطفى محمود

أفيون هذا الزمان


تتبارى أجهزة التليفزيون و الإذاعة و السينما و صفحات المجلات و الجرائد على شيء واحد خطير هو سرقة الإنسان من نفسه. شد عينيه و أذنيه و أعصابه و أحشائه ليجلس متسمرا كالمشدوه أمام التليفزيون أو الراديو أو السينما، و قد تخدرت أعصابه تماما، كأنه أخذ بنجا كليا و راح يسبح بعينيه مع المسلسلة، و يكد ذهنه متسائلا: من القاتل، و من الهارب. و بين قاهر الجواسيس، و ريتشارد كامبل، و الأفيشات العارية في المجلات، و العناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم و الليلة، و يعود الواحد إلى فراشه و هو في حالة خواء و فراغ و توتر داخلي مجهول السبب، و حزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط.

و الحقيقة أنه لم يعش بالفعل، و أن حق الحياة سلب منه، و أنه سلب من نفسه، و أخرج عنوة و ألقي به في مغامرات عجيبة مضحكة، و تساؤلات لا تهمه على الإطلاق. من الذي قتل شهيرة هانم! و لماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية (( الذئب في فراشي )) ؟ و أين الكنز في مسلسلة عبيد الذهب؟ و أين الحقيقة في رواية ارحمني يا حبيبي؟

و يمر اليوم تلو اليوم. و تظل هذه الأجهزة تقوم بما يشبه العادة السرية للمتفرجين، و تغرقهم في نشوات مفتعلة إلى درجة التعب، ثم تلقي بهم إلى الفراش آخر الليل منهوكي الأحاسيس، لا يدري الواحد منهم ماذا به بالضبط. لماذا يشعر بأنه مجوف تماما. و أنه لا يعيش أبدا، و أنه لا يقول ما يريد أن يقوله، و لا يسمع ما يريد ان يسمعه، و إنما هو يربط في أرجوحة تظل تدور به دورانا محموما حتى يغمى عليه تماما و ينسى ما كان يفكر فيه، و ما كان يريد أن يقوله، و ما كان يريد أن يسمعه، و ما كان يملأ منه القلب و العقل. و يتحول إلى حيوان أعجم مربوط العقل و الإحساس إلى هذه الأجهزة الغريبة التي تفتعل له حياة كلها كذب في كذب.

و هذه الظاهرة ظاهرة عالمية، بل هي من سمات هذا العصر المادي الميكانيكي الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي.
و هو نوع من القتل الجميل الرائع. تخنق فيه العقول بحبال من حرير، و تخنق الخيالات بالعطور الفواحة. و تخاط فيه الشفاه بجدائل من شعر بريجيت باردو، و أرسولا انرس.
و كلما زادت مقاومة المتفرج لهذا الأفيون زاد المخرجون من المساحة العارية المسموح بها من صدر الممثلة و من ساقيها، و سكبوا كمية من الدم أكثر في رواياتهم، و كمية من البترول المشتعل أكثر على أعصاب الناس.

و حينما تنفجر الأعصاب في ظواهر متشابهة مثل ظاهرة الخنافس و الهيبز، و رقصات الجرك المجنونة، و أدب الساخطين و الغاضبين و اللاعنين، فهي دائما نتائج ذلك البخار المضغوط في جماهير الشباب التي قضي عليها بأن تعيش أسيرة عنكبوت الإعلام، و الأخطبوط ذي الألف اسم. الإذاعة و السينما و الجرائد. ذلك السجن ذي القضبان الجميلة من الأذرع العارية في المجلات و الروايات لتعيش معزولة عن معركة المصير و عن الإدلاء برأي في مأساة الحياة و الموت التي تجري على مساحة العالم كل يوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بالزوار الاعزاء ومرحبا بالنقد البناء
مرحبا بمن يدعمنا بافكارة التى تفيد القراء